كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيهان:
الأول: جاء في مثل هذا السياق سواء بسواء قوله تعالى: {وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذا} [الجاثية: 34].
وقوله: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هاذآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ}
[السجدة: 14].
وقوله: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، وفي هذا نسبة النسيان إلى الله تعالى فوقع الإشكال مع قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] وقوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [طه: 52].
وقد أجاب الشيخ- رحمة الله عليه- عن ذلك في دفع إيهام الاضطراب، بأن النسيان المثبت بمعنى الترك كما تقدم، والمنفي عنه تعالى: هو الذي بمعنى السهو، لأنه محال على الله تعالى.
التنبيه الثاني:
مما نص عليه الشيخ- رحمة الله تعالى عليه- في مقدمة الأضواء، أن من أنواع البيان أن يوجد في الآية اختلاف للعلماء وتوجد فيها قرينة دالة على المعنى المراد، وهو موجود هنا في هذه المسألة وهو قوله تعالى: {اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذا} [الجاثية: 34] وهذا القول يكون يوم القيامة، وقد عبر عن النسيان بصيغة المضارع وهي للحال أو الاستقبال، ولا يكون النسيان المخبر عنه في الحال إلا عن قصد وإرادة، وكذلك لا يخبر عن نسيان سيكون في المستقبل إلا عن قصد وإرادة، وهذا في النسيان بمعنى الترك عن قصد، أما الذي بمعنى السهو فيكون بدون قصد ولا إرادة، فلا يصح التعبير عنه بصيغة المضارع ولا الإخبار بإيقاعه عليهم في المستقبل، فصح أن كل نسيان نسب إلى الله فهو بمعنى الترك، وكان قوله تعالى: {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19] مفسرًا ومبينًا لمعنى {اليوم نَنسَاكُمْ} [الجاثية: 34] ولقوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [السجدة: 14] والعلم عند الله تعالى.
{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}
دلت هذه الآية الكريمة على عدم استواء الفريقين: أصحاب النار وأصحاب الجنة. وهذا أمر معلوم بداهة، ولكن جاء التنبيه عليه لشدة غفلة الناس عنه، ولظهور أعمال منهم تغاير هذه القضية البديهية، كمن يسيء إلى أبيه فتقول له: إنه أبوك، قاله بعض المفسرين.
وهذا في أسلوب البيان يراد به لازم الخبر. أي يلزم من ذلك التنبيه أن يعملوا ما يبعدهم عن النار ويجعلهم من أصحاب الجنة، لينالوا الفوز:
وهذا البيان قد جاءت نظائره عديدة في القرآن كقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} [ص: 28] وكقوله: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] أيفي الحكم عند الله، ولا في الواقع في الحياة أو في الآخرة، كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] وهنا كذلك {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة} [الحشر: 20] في المرتبة والمنزلة والمصير.
قال أبو حيان: هذا بيان مقابلة الفريقين أصحاب النار في الجحيم، وأصحاب الجنة في النعيم، والآية عند جمهور المفسرين في بيان المقارنة بين الفريقين، وهو ظاهر السياق بدليل ما فيها من قوله: {أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون}، فهذا حكم على أحد الفريقين بالفوز، ومفهومه الحكم على الفريق الثاني بالهلاك والخسران، ويشهد له أيضًا ما قبلها {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله} [الحشر: 19] أي من هذا الفريق فأنساهم أنفسهم، فصاروا أصحاب النار على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وهنا احتمال آخر، وهو لا يستوي أصحاب النار في النار ولا أصحاب الجنة في الجنة، فيما هم فيه من منازل متفاوتة كما أشار إليه أبو حيان عند قوله تعالى: {وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة} [فصلت: 34]، ولكن عدم وجود اللام هنا يجعله أضعف احتمالًا، وإلا لقال: لا يستوي أصحاب النار، ولا أصحاب الجنة، وهذا المعنى، وإن كان واقعًا لتفاوت درجات أهل الجنة في الجنة، ومنازل أهل النار في النار، إلا أن احتماله هنا غير وارد، لأن ىخر الآية حكم على مجموع أحد الفريقين، وهم أصحاب الجنة أي في مجموعهم كأنه في مثابة القول: النار والجنة لا يستويان، فأصحابهما كذلك.
وقد نبه أبو السعود على تقديم أصحاب النار، في الذكر على أصحاب الجنة بأنه ليبين لأول وهلة أن النقص جاء من جهتهم كما في قوله: {هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور} [الرعد: 16] اهـ.
وبيان ذلك أن الفرق بين المتفاوتين في الزيادة والنقص، يمكن اعتبار التفاوت بالنسبة إلى النقص في الناقص، ويمكن اعتباره بالنسبة إلى الزيادة في الزائد.
فقدم الجانب الناقص ليبين أن التفاوت الذي حصل بينهما، إنماهو بسبب النقص الذي جاء منهام لا بسبب الزيادة في الفريق الثاني: والنتيجة في ذلك عدم إمكان جانب النقص الاحتجاج على جانب الزيادة، وفيه زيادة تأنيب لجانب النقص، وفي الآية إجمال أصحاب النار وأصحاب الجنة.
ومعلوم أن كلمة أصحاب تدل على الاختصاص، فكأنه قال: أهل النار وأهل الجنة المختصون بهما.
وقد دل القرآن أن أصحاب النار هم الكفار كما قال تعالى: {والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39].
والخلود لا خروج معه كما في قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} [البقرة: 165] إلى قوله: {وَقال الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} [البقرة: 166- 167] وكقوله في سورة الهمزة {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الحطمة وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحطمة نَارُ الله الموقدة التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 3- 8] أي: مغلقة عليهم.
أما أصحاب الجنة فهم المؤمنون كقوله تعالى: {إِنَّ الذين قالواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أولئك أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13- 14] وقد جمع القسمين في قوله تعالى: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81- 82].
كما جاء مثل هذا السياق كاملًا متطابقًا فيفسر بعضه بعضًا كما قدمنا، وذلك في سورة التوبة قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [التوبة: 67- 68].
فهذه أقسام الكفر والنفاق، وأخص أصحاب النار والاختصاص من الخلود فيها ولعنهم وهي حسبهم، وهم الذين نسوا الله فنسيهم، وهم عين من ذكر في هذه السورة سورة الحشر، ثم جاء مقابلة تمامًا في نفس السياق في قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ذلك هُوَ الفوز العظيم} [التوبة: 71- 72].
وهذه أيضًا أخص صفات أهل الجنة، من الرحمة والرضوان، والخلود، والإقامة الدائمة في جنات عدن، إذ العدن الإقامة الدائمة، ومنها المعدن لدوام إقامته في مكانه، ورضوان من الله أكبر.
ثم يأتي الخاتم في المقامين متحدًا، وهو الحكم بالفوز لأصحاب الجنة، ففي آية التوبة {ذلك هُوَ الفوز العظيم} [بالتوبة: 72] وفي آية الحشر {أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون}، وبهذا علم من هم أصحاب النار، ومن هم أصحاب الجنة.
وتبين ارتباط هذه المقابلة بين هذين الفريقين، وبين ما قبلهم ممن سنوا فأنساهم أنفسهم، ومن اتقوا الله وقدموا لغدهم، وبهذا يعلم أن عصاة المسلمين غير داخلين هنا في أصحاب النار، لما قدمنا من أن أصحاب النار هم المختصون بها ممن كفروا بالله وكذبوا بآياته، وكما يشهد لهذا قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71- 72]، والظالمون هنا هم المشركون في ظلمهم أنفسهم.
وبهذا يرد على المعتزلة أخذهم من هذه الآية عدم دخول أصحاب الكبيرة الجنَّة على أنهم في زعمهم لو دخلوها لا ستووا مع أصحاب الجنة.
وهذا باطل كما قدمنا، ومن ناحية أخرى يرد بها عليهمن وهي أن يقال: إذا خلد العصاة في النار على زعمكم مع ما كان منهم من إيمان بالله وعمل صالح فماذا يكون الفرق ينهم وبين الكفار والمشركين، وتقدم قوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين} [ص: 28].
وقد يحث الشيخ رحمة الله تعالى عليه، مسألة بقاء العصاءة وخروجهم من النار وخلود الكفار فيها بحثًا واسعًا في دفع إيهام الاضطراب في سورة الأنعام فليرجع إليه.
وقد استدل الشافعي رحمه الله، بهذه الآية أن المسلم لا يقتل بالذمي ولا بكافر لأنهما لا يستويان، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالهقر. ذكره الزمخشري.
وهذا وإن كان حقًا إلا أن أخذه من هذه الآية فيه نظر، لأنها في معرض المقارنة للنهاية يوم القيامة.
{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا القرآن عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}
قوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا} يدل على أنه لم ينزله، وأنه ذكر على سبيل المثال ليتفكر الناس في أمره كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قرآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} [الرعد: 31] الآية.
قال الشيخ رحمة الله تعالى عليه، عندها: جواب لو محذوف.
قال بعض العلماء: تقديره لكان هذا القرآن إلخ. اهـ.
وقال ابن كثير: يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن ومبينًا علو قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن} الآية.
فإن كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل.
فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتهم عن الله أمره وقد تدبرتم كتابه، ولهذا قال تعالى: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
وقد وجد لبعض الناس شيئًا من ذلك عن سماع آيات من القرآن، من ذلك ما رواه ابن كثير في سورة الطور عن عمر رضي الله عنه قال: خرج عمر رضي الله عنه يعس بالمدينة ذات ليلة فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائمًا يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ والطور حتى بلغ إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع. قال: قسم ورب الكعبة حق، فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث مليًا ثم رجع إلى منزله فمكث شهرًا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه.
وذكر القرطبي: قال جبير بن مطعم قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فوافيته يقرأ في صلاة المغرب والطور إلى قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} [الطور: 7- 8]، فكأنما صدع قلبي فأسلمت خوفًا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وذكر في خبر مالك بن دينار أنه سمعهافجعل يضطرب حتى غشي عليه. اهـ.